-
الرؤية الإصلاحية في "قنديل أم هاشم"
لم يكن من المنتظر للرواية الصادرة عام 1940م والتي لم تزد صفحاتها على 57 صفحة أن تُحْدِث كل هذا الأثر في حياتنا الأدبية، وتصبح من الروايات المُلْهِمة في المسار السردي للأدب العربي الحديث؛ بل إنها حتى الآن هي العمل المتبادر إلى الذهن أولًا حين يُذكر "يحيى حقي".
لقد مثلت "قنديل أم هاشم" في وقتها أدبًا جديدًا كل الجِدَّة، فالبساطة التي وَسَمتْها، والموضوع الذي تمحورت حوله موضحةً كافة مظاهره، ومُلِمَّةً بكل جوانبه، مع رسمها لملامح وسِمات الجماعة الشعبية في حي "السيدة زينب" وعموم المملكة المصرية آنذاك، والحل الإصلاحي الذي وضعته في ختام الأحداث؛ كل هذا يؤكد لنا أننا بإزاء عين راصدة لأديبٍ نبيل. أديب تمتع بالثقافة الواسعة ورجاحة العقل وفهم المجتمع الذي يعيش فيه، مع الرغبة الصادقة في إصلاحه.
وحكاية "قنديل أم هاشم" لا تبدأ مع البطل "إسماعيل" بل من الكاتب "يحيى حقي" الذي استعار اسم أخيه في رواية تضع أمامنا معالم شبابه، وتكشف عن تفكيره فيمَ كان؟ وكيف كان؟ وإلى أي شيء هداه ذلك التفكير؟ بالطبع ليست "قنديل أم هاشم" سيرة ذاتية للكاتب، ولكنها بالتأكيد تحمل روحه وعقله وخبراته، وتبين طريقة معيشته في حي "السيدة" الذي ولد فيه عام 1905م.
ويمكن تلخيص رواية "قنديل أم هاشم" في الصراع الذي دار بين "إسماعيل" الشاب العائد من ألمانيا بعد أن درس فيها "طب العيون" وبين أهل منطقته الذين يعالجون مرضاهم بوضع "زيت قنديل أم هاشم" في أعينهم! مما يزيدها تلفًا بالطبع، ويُصَعِّب من علاجها، ويضعفها كثيرًا؛ بل قد يصل بها إلى العمى الكامل.
وكان "إسماعيل" قبل مغادرته البلاد إلى ألمانيا يؤمن بالخرافات شأن كل أبناء الحي، ورغم أن والده كان عتيدًا في إيمانه بالخرافة إلا أنه حَلُمَ بإدخاله كلية الطب؛ حتى يتعلم ويتنور ويحدث حِراكًا اجتماعيًا ينقل به الأسرة إلى الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، وحين فشل أبو إسماعيل في إدخاله كلية الطب المصرية، قرر في عزم وتصميم على بلوغ الهدف أن يبيع الأرض التي يملكها مع محصولها الذي كان في انتظار الحصاد ليجمع ثمن تذكرة السفر حتى يدرس ابنه الطب في أوروبا.
وهكذا سافر "إسماعيل" إلى ألمانيا وعاد ليجد والدته تعالج حبيبته وابنة عمه "فاطمة النبوية" بزيت قنديل أم هاشم، والبعض لا يعرف من هي "أم هاشم" رغم أنه شاهد الفيلم السينمائي المأخوذ عن الرواية عدة مرات على شاشة التلفاز! ولهؤلاء نقول إن "أم هاشم" هي الكنية التي أطلقها المصريون على السيدة "زينب بنت علي بن أبي طالب" حيث يعتقد كثيرٌ منهم أنها مدفونة في الضريح المنسوب إليها في القاهرة بالقرب من من القصر العيني ومنطقة وسط البلد، والحقيقة التي تهيج لها المشاعر ويثور الغضب على قائلها أن الضريح ليس فيه جثمان السيدة زينب، وغاية أمره أنه ضريح عمَّرَه المتصوف الشهير "علي الخواص" في القرن العاشر الهجري أثناء الحكم التركي لمصر بعد رؤيا منامية شاهد فيها -بحسب كلامه- رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخبره أن المدفونة عند "قناطر السباع" هي حفيدته زينب بنت فاطمة الزهراء وعلي بن أبي طالب؛ فالضريح إذن أحد أضرحة الرؤيا كما يتبين من كتاب "المنن الكبرى" لعبد الوهاب الشعراني تلميذ الخواص، الذي حكى للقارئ منام أستاذه وتعميره للضريح.
وكان الشيخ "محمد بخيت المطيعي" المفتي الأسبق لمصر يعتقد أن المدفونة هي السيدة "زينب بنت يحيى المتوج بالأنوار بن الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب" فخلط الناس بينها وبين "زينب الكبرى" ويغلب على الظن أن هذا الطرح أيضًا بعيد عن الصحة لأن منطقة السيدة كانت مليئة بمستنقعات كبيرة لم تشرع في الجفاف إلا منذ بدايات القرن العاشر الهجري؛ بل ظل أحدها قائمًا حتى نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، كما أن للسيدة "زينب بنت يحيى" ضريح آخر في منطقة "باب النصر" والأقرب إلى الصواب أنه ضريحها الفعلي؛ أما الضريح الزينبي المشهور في مصر فهو ضريح رؤيا بناه الصوفي "علي الخواص" تحقيقًا لما رآه في نومه؛ والمنامات لا تفيد اليقين لا في الدين ولا في التاريخ؛ بل قال العلماء: "من تعلَّق بالمنامات بالمُنى مات"!
فإذا كان الضريح وهمًا فهل سيكون زيت قنديله علاجًا حقيقيًا لأمراض العيون؟ بالطبع لا؛ فلهذا لما رأى الطبيب الشاب ما يحدث من التداوي بالزيت العَكِر المليء بالشوائب، أخذ ابنة عمه اليتيمة التي رباها والده، والتي كانت أسرته قد قررت أن يتزوجها فور عودته من ألمانيا، وجعل يفحص عينيها ليكتشف أن الزيت -مع كل أسف- أتلفهما جدًا، ونسمع صوت إسماعيل يعلو منددًا بما فعلته أمه، ويخبرها أن الزيت لا علاقة له بعلاج العيون، وأن بَرَكة القنديل خرافة لا يقرها العلم.
وهكذا تحمس "إسماعيل" لدور نضالي ضد الخرافة، ونسي أن أهل منطقته كلهم سيقفون ضده لا محالة؛ وسيقولون: لقد أرسلناك لتعالج عيون مرضانا لا لتُسَفِّه عقائدنا، وهذا ما حدث بالفعل! فقد صاح فيه والده: "كل اللي كسبناه إنك رجعت لنا كافر"! وحين رأى الشاب نفسه محاصرًا من الجميع، ورأى حماسته في رفض الخرافة والثورة عليها دون أية جدوى ولا تصل به إلى المطلوب؛ وأكثر من ذلك أنها جعلته منبوذًا وصارت عقبة تحول دون رغبته المشروعة في اجتذاب أهل الحي إلى عيادته، كما أبعدته عن "فاطمة" التي عاد ليتزوجها؛ حين رأى كل هذا جلس مع نفسه ورتب أفكاره وأعاد حساباته، ثم قرر أن يتحلى بنوع من المرونة والدبلوماسية؛ وهكذا دخل عيادته أمام المرضى حاملًا زجاجة فيها ماء عادي قال عنه إنه "زيت القنديل"! وهكذا اضطر الطبيب أن يعامل أهله وجيرانه معاملة الأطفال، فأعلن لهم أنه ليس ضد "البركة" وأنه يؤمن مثلهم بكرامات "أم هاشم" فعاد كل شيء ليس كما كان بل أفضل، وامتلأ الجو بالود والصفاء، وحين توافد الزبائن عالجهم بالعلم وحده، وبالعلم وحده عالج فاطمة ثم تزوجها كما كان مقررًا، وأنجب منها أحد عشر طفلًا، خمسة أولاد وست بنات.
والرواية وإن لم تكن سيرة ذاتية كما أشرت في أول المقال إلا أن فيها الكثير من قصة "يحيى حقي" في الواقع؛ فالمعروف أنه عمل بالسلك الدبلوماسي المصري، وأنه سافر إلى الخارج وعاين الحضارة الغربية عن كَثَب، وهو من أبناء حي السيدة قبل كل هذا، وبذلك يضع أمامنا "حقي" تجربته ورؤيته لعالمين: عالم متحضر وثَّاب يحتل موقع الصدارة كل يوم باكتشافاته العلمية واختراعاته التقنية؛ وعالم آخر في دول نامية بحاجة ماسة إلى رؤية إصلاحية تبدأ من إيمان المثقف بوطنه وعدم تعاليه على أهله وناسه، وهكذا قرر "حقي" أن يخاطب الناس بهدوء، وكتب أكثر من قصة تناقش الخرافة بلغة يفهمها الناس ولا تجرحهم، والحق أن شخصية أديبنا ساهمت كثيرًا في هذا المنحى لأنه كان طيبًا وديعًا لا يحب التحدي والاستفزاز، وكان أصدقاؤه يلقبونه بـ "الأمير" لحسن أخلاقه وطيب معشره.
والرؤية الإصلاحية لـ "حقي" تجلت أيضًا في العديد من المقالات التي حاول فيها وضح الحلول المناسبة لمشاكلنا الاجتماعية، وفيها كان ينفر من "الأستاذية" جاعلًا من القارئ صديقًا له، فهو يحكي له ويمازحه ويشركه في الحديث، ويخاطبه دائمًا بروح لطيفة مظهرًا أقصى درجات الود.
ولأن "قنديل أم هاشم" رواية إصلاحية ذات نبرة هادئة ونهاية سعيدة، فقد رأى فيها صناع السينما صيدًا ثمينًا، فأخرج لنا "كمال عطية" فيلمًا يحمل اسم الرواية كما هو دون تغيير أو تعديل، وكتب السيناريو للفيلم الأديب الراحل "صبري موسى" صاحب رواية "فساد الأمكنة" ثم ظهر الفيلم على شاشات دور العرض السينمائية عام 1968م ليحالفه النجاح، فكاتب الرواية هو أحد أبرز رواد القصة القصيرة والفن الروائي في مصر، وهو قامة ثقافية مرموقة؛ أما كاتب السيناريو فهو الأديب الصاعد آنذاك "صبري موسى" وأبطال الفيلم كلهم من الفنانين الكبار المشاهير، ويكفي اسم "شكري سرحان" وهو ممثل قدير كل أدواره متميزة سواءًا فيما تعكسه من المهارة في الأداء، أو من الثقافة، فهو من النجوم المثقفين.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف نواجه سيل الخرافات في زمن غياب الثقافة بهدوء ودون استفزاز كما فعل "إسماعيل" أو "يحيى حقي"؟ لا بد لمن تبقى من المثقفين أن يفكروا في إجابة مناسبة لهذا السؤال حتى لا ينتصر الوهم على الحقيقة.
ليفانت - حاتم السروي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!